كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الحافظ ابن كثير: كان هذا النهي قبل تحريم الخمر، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالميسِرِ} [البقرة: من الآية 219]، الآية، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم تلاها على عمر، فقال: اللّهُمّ بَيّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة تَلَاهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللّهُمّ بَيّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَانًا شَافِيًا، فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ الْخَمْر فِي أَوْقَات الصّلَوَات، حَتّى نَزَلَتْ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس مِنْ عَمَل الشّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90- 91] فَقَالَ عُمَر: اِنْتَهَيْنَا اِنْتَهَيْنَا.
ولفظ أبي داود عن عُمَر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث، وفيه نزلت الآية التي في النساء: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ} فَكَانَ مُنَادِي رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إِذَا قَامَتْ الصّلَاة يُنَادِي: لَا يَقْرَبَن الصّلَاة سَكْرَان.
وروى اِبْن أَبِي شَيْبَة واِبْن [أَبِي] حَاتِم عَنْ سَعْد رَضِي اللّهُ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَع آيَات: صَنَعَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار طَعَامًا فَدَعَا أُنَاسًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَأُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَار، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا حَتّى سَكِرْنَا، ثُمّ اِفْتَخَرْنَا، فَرَفَعَ رَجُل لَحْي بَعِير فَغَرَزَ بِهَا أَنْف سَعْد فَكَانَ سَعْد مَغْرُوز الْأَنْف، وَذَلِكَ قَبْل تَحْرِيم الْخَمْر، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الْآيَة. وَالْحَدِيث بِطُولِهِ عِنْد مُسْلِم، وَرَوَاهُ أَهْل السّنَن إِلّا اِبْن مَاجَهْ.
وروى أبو داود والنسائي عن علي رَضِي اللّهُ عَنْهُ أن أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: {قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ} فخلط فيها، فنزلت: {لاَ تَقْرَبُواْ} الآية.
وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَلِيّ رَضِي اللّهُ عَنْهُ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْد الرّحْمَن بْن عَوْف طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْر، فَأَخَذَتْ الْخَمْر مِنّا، وَحَضَرَتْ الصّلَاة، فَقَدّمُوا فُلَانًا، قَالَ فَقَرَأَ: قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ مَا أَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ، فَأَنْزَلَ اللّه: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاة}. الآية، وَكَذَا رَوَاهُ الترمذيّ وَقَالَ: حَسَن صَحِيح.
{وَلاَ جُنُبًا} عطف على قوله: {وَأَنتُمْ سُكَارَى} إذ الجملة في موضع النصب على الحال، والجنب الذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب.
{إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: مارين بلا لبث.
{حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ} من الجنابة: أي: لا تقربوا موضع الصلاة، وهو المسجد، وأنتم جنب، إلا مجتازين فيه، إما للخروج منه أو للدخول فيه.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية قال: قَالَ: لَا تَدْخُلُوا الْمَسْجِد وَأَنْتُمْ جُنُب إِلّا عَابِرِي سَبِيل، قَالَ: تَمُرّ بِهِ مَرّا، وَلَا تَجْلِس، ثُمّ رواه عن كثير من الصحابة، منهم ابن مسعود وثلة من التابعين.
وروى ابن جرير عن اللّيْث قَالَ: حَدّثَنَا يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ قَوْل اللّه عَزّ وَجَلّ: {وَلَا جُنُبًا إِلّا عَابِرِي سَبِيل} إِنّ رِجَالًا مِنْ الْمَسْجِد تُصِيبهُمْ الْجَنَابَة، وَلَا مَاء عِنْدهمْ فَيَرِيدُونَ الْمَاء وَلَا يَجِدُونَ مَمَرّا إِلّا فِي الْمَسْجِد، فَأَنْزَلَ اللّه: {وَلَا جُنُبًا إِلّا عَابِرِي سَبِيل}.
قال الحافظ ابن كثير: وَيَشْهَد لِصِحّةِ مَا قَالَهُ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب رَحِمَهُ اللّه، مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح البخاريّ أَنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ: «سُدّوا كُلّ خَوْخَة فِي الْمَسْجِد، إِلّا خَوْخَة أَبِي بَكْر».
وَهَذَا قَالَهُ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فِي آخِر حَيَاته، عِلْمًا مِنْهُ أَنّ أَبَا بَكْر رَضِي اللّهُ عَنْهُ سَيَلِبي الْأَمْر بَعْده وَيَحْتَاج إِلَى الدّخُول فِي الْمَسْجِد كَثِيرًا لِلْأُمُورِ الْمُهِمّة فِيمَا يَصْلُح لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِسَدّ الْأَبْوَاب الشّارِعَة إِلَى الْمَسْجِد إِلّا بَابه رَضِي اللّهُ عَنْهُ، وَمَنْ رَوَى إِلّا بَاب عليّ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْض السّنَن فَهُوَ خَطَأ وَالصّوَاب مَا ثَبَتَ فِي الصّحِيح.
وَمِنْ هَذِا التأويل اِحْتَجّ كَثِير مِنْ الْأَئِمّة عَلَى أَنّهُ يَحْرُم عَلَى الْجُنُب الْمُكْث فِي الْمَسْجِد، وَيَجُوز لَهُ الْمُرُور.
وثمة تأويل آخر في قوله تعالى: {إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وهو أن المراد منه المسافرون، أي: لا تقربوا الصلاة جنبًا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين، فيكون هذا الاستثناء دليلًا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء، وقد روى ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش عن عليّ في هذه الآية، قال: لا يقرب الصلاة لا أن يكون مسافرًا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء، فيصلي حتى يجد الماء، ثم رواه من وجه آخر عن عليّ: ورواه عن جماعة من السلف أيضًا: أنه في السفر.
قال ابن كثير: ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «الصّعِيد الطّيّب طَهُور الْمُسْلِم، وَإِنْ لَمْ تَجِد الْمَاء عَشْر حِجَج، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاء فَأَمِسّهُ بَشَرَتك فَإِنّ ذَلِكَ خَيْر لَك»، وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقي في الجملتين المتعاطفتين، وفي التأويل السابق تكون الصلاة، في الجملة الثانية محمولة على مواضعها.
قال في فتح البيان: وبالجملة، فالحال الأولى أعني قوله: {وَأَنتُمْ سُكَارَى} تقوي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي، من دون تقدير مضاف، وسبب نزول الآية السابق يقوي ذلك، وقوله: {إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} يقوي تقدير المضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة، ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي أعني لا تقربوا وهو قوله: {وَأَنتُمْ سُكَارَى} يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله: {إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ}، يدل على أن المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد، منهما بقيد، وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبًا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب، وغاية ما يقال في هذا إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو جائز بتأويل مشهور.
وقال ابن جرير بعد حكايته للتأويلين: وأولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من تأوله: {وَلاَ جُنُبًا إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء، وهو جنب، في قوله: {وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى آخره، فكان معلومًا بذلك أن قوله: {وَلاَ جُنُبًا إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ} لو كان معنيًا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: {وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
وإن كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة، مصلين فيها، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضًا جنبًا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل.
قال: و(العابر السبيل) المجتازه مرًا وقطعًا، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عَبْرًا وعبورًا، ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه، ومنه قيل، للناقة القوية على الأسفار: هي عُبْر أسفار، وعَبْر أسفار، لقوتها على الأسفار.
قال ابن كثير: وهذا الذي نصره (يعني ابن جرير) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضًا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ} غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها، حال الجنابة، والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا، إلا حال عبوركم السبيل.
تنبيهات:
الأولى: في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو، وبطلانها وبطلان الاقتداء به، وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافرًا، فيباح له التيمم.
الثاني: تمسك بالآية من قال: إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزني واختاره الطحاوي، والمسألة مبسوطة في زاد المعاد للإمام ابن القيم.
الثالث: في الآية دليل على أن ردة السكران ليست بردة: لأن قراءة سورة الكافرين، بطرح اللاءات، كفر، ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان، وما أمر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالتفريق بينه وبين امرأته، ولا بتجديد الإيمان، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئًا، لا يحكم بكفره، قاله النسفي.
الرابع: استدل بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول، فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه، كذا في الإكليل.
الخامس: استدل ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف السكران ودخوله تحت الخطاب، وفيه نظر، لأن الخطاب عام لكل مؤمن، وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر، فإنما نزل بعد صحوهم، كذا في الإكليل.
السادس: في قوله تعالى: {حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ} رد على من أباح جلوس الجنب مطلقًا إذا توضأ، لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل، فلا يقوم مقامه الوضوء، كذا في الإكليل.
أقول: إنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصًا في تأويل واحد، وحيث تطرق الاحتمال لها، على ما رأيت، فلا.
وقد تمسك المبيح، وهو الإمام أحمد، بما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بسند صحيح، أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك.
قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد، هو الدراوردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجلًا من أصحاب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضؤوا وضوء الصلاة.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
السابع: قال العلامة أبو السعود: لعل تقديم الاستثناء على قوله: {حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ} للإيذان، من أول الأمر، بأن حكم النهي في هذه الصورة ليس على الإطلاق، كما في صورة السكر، تشويقًا إلى البيان، ورومًا لزيادة تقرره في الأذهان.
الثامن: قال أيضًا: في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يليه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية، عند إمكان أعاليها.
التاسع: أشعر قوله تعالى: {حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ} بالنهي عن الصلاة حال النعاس، كما روى الإمام أحمد والبخاريّ والنسائي عن أنس قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول».
وفي رواية: «فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه».
وقد روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم.
قال ابن جرير: والصواب أن المراد سكر الشراب.
قال الرازي: ويدل عليه وجهان:
الأول: أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة.
والثاني: أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة مُعينة، ولأجل سببٍ مُعين، امتنع أن لا يكون ذلك السببُ مُرادًا بتلك الآية.
العاشر: قال الحافظ ابن كثير: قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية، لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات، من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائمًا، والله أعلم.